في فقاعة المعرفة

مصطلح فقاعة المرشح ظهر قبل عشر أعوام وهو يصف ظاهرة أن يضع الفرد نفسه في فقاعة معلوماتية ومعرفية تجنبه رؤية شيء يخالف نظرته للعالم، أذكر أن هذه الفكرة كانت حديث ونقاش البعض قبل ظهور المصطلح نفسه والمصطلح ساعد على أن يعطي الظاهرة اسماً يمكن الإشارة له.

الفقاعة المعرفية ليست وليدة عالم التقنية فحتى الناس قبل الحواسيب وقبل الشبكة كانوا يعيشون في دوائر مغلقة، من يقرأ صحفاً محددة ويشاهد قنوات تلفاز محدودة ويصاحب فقط من يشاركه في الرأي، هذا الشخص يعيش في فقاعة معرفية، الفرق أن الإنترنت تضخم أثر هذه الفقاعة لتحيط بكم أكبر من الناس يشتركون في نفس الأفكار وتتحول الفقاعة من مجرد غلاف رقيق يمكن تجاوزه بسهولة إلى جدار يصعب اختراقه.

يتساءل البعض كيف يمكن للناس تصديق هذه الفكرة أو تلك ويمكن ضرب أمثلة مختلفة، كيف يمكن لأي شخص أن يصدق بأن الأرض مسطحة؟ أو أن التطعيم مؤامرة؟ أو يظن بأن العالم كله يتآمر عليه؟ بعض الناس حولوا مثل هذه الأفكار إلى شيء يستخدمونه للتعريف بأنفسهم وكجزء من هوياتهم، لا يكفي أنه يعتنق فكرة لا علاقة لها بالواقع بل يجعل الإيمان بها هو الحقيقة والواقع بالنسبة له.

لذلك محاولة تفنيد الأفكار لا تنجح كثيراً في تغيير آراء الناس، لأنها تخاطب الجانب المنطقي فقط في حين أن الفكرة التي يؤمنون بها لها جانب عاطفي واجتماعي فهي فكرة تربطهم بأناس آخرين وتجعلهم عضواً في قبيلة وهذا الانتماء أقوى من أن تغيره مقالات أو كتب، هناك حاجة لمخاطبة حاجة الفرد للانتماء.

الجماعات لها تأثير على الناس وتدفعهم للتفكير بأسلوب محدد وللإيمان بأفكار محددة، وعندما أقول “جماعات” فلا تظن أنني أعني فقط الجماعات الإرهابية والمذهبية بل أي مجموعة من الناس، من البديهي أن أي مجموعة من الناس تظن أنها على حق وأن الطرف الآخر على باطل لكن طريقة التفكير هذه خطرة لأن المسافة بين اعتبار الآخر على خطأ وتحويله لعدو لا يستحق الاحترام ليست كبيرة ويمكن قطعها بدون أن يشعر الفرد.

ما إن يبدأ فريق في تحويل الآخر لعدو حتى يدخل الفريق الآخر في مرحلة دفاعية وربما هجومية لكي يحمي وجوده وهذا قد يتفاقم إلى صراع دموي، ما يحدث في أمريكا مثال جيد، مجتمع منقسم بين الأحمر والأزرق ويحتاج لعقود لكي يصلح ما أفسده التعيس في البيت الأبيض الذي قبح العالم بوجوده.

الانقسام بين الناس لن يعالجه محاولة إثبات خطأ الفريق الآخر، لأن الفريق الآخر يؤمن بأنه على صواب ويعيش واقعاً كله يثبت أنه على حق، وكذلك الحال مع الفريق الأول، لذلك الحاجة للتغيير ولإقناع الناس بألا ينظرون للآخر على أنه عدو هو جهد ضروري ويتطلب سنوات من العمل، يتطلب تجاوز الشعور بالغضب تجاه الآخر وتقبل حقيقة أنه مختلف وأن هناك قواسم مشتركة بين الفريقين.

حتى على المستوى الشخصي، الفرد منا عليه أن يفكر إن كان يحيط نفسه بفقاعة معرفية دون أن يدرك.

 

مصدر الصورة: Sergey Galyonkin

7 thoughts on “في فقاعة المعرفة

  1. قالت لنا إحدى المعلِّمات يومًا: قليل العلم هو فقط من يرفض تمسُّك الناس بقول غير القول الذي يرجِّحه، و أما المُطَّلِع فإنَّه يعرف أن المسائل تستوعب قولين و الترجيح يرجع لمقدار الاستيعاب و اطمئنان القلب…

    لم يعُد اقناع الناس واردًا كثيرًا برأيي، فالناس لم يعودوا قادرين على الاستماع فقط لآخرين في الضفة المقابلة!
    فقاعة المعرفة خطر رهيب، لا سيَّما إن كان صاحبها لا يعرف أنها تحيط به، فإن عرَف قلَّ الضرر باعتباره سيخجل منها أو سيحرص على عدم دسِّ نفسه في ما يفضحه بها.

    موضوع قيِّم👌

  2. لو كان الأمر بيدي لقمت بـ طباعة هذه التدوينة وتوزيعها في الشارع بعد إعادة صياغتها بالعامية

    1. شكراً يا طيب، وجدت أفضل وسيلة لإخراج الناس من حدود المعرفة التي وضعوها لأنفسهم بأن أسألهم وأطالب بإجابات، لا أقدم رأياً أو إجابة لكن أجعلهم يدركون أن ما يظنونه الحقيقة الوحيدة هو رأي قابل للأخذ والرد وأن هناك آراء أخرى، لا أنتظر من الفرد أن يتغير لحظتها لكن هذه بداية التغيير.

  3. صحيح تماماً .. يجب على الإنسان أن لا يسلم عقله لكل معلومة أو فكرة هبّت أو دبّت وأن يملك أدوات التفكير والنقد المعيارية الصحيحة لكي لا يضحك عليه أحد، العقل أثمن بكثير من أن يتم تعطيله بهذا الشكل.

    1. الجانب النفسي مهم هنا، بعض الناس يريدون من العالم أن يعمل وفق تصور محدد، أو لديهم قناعات مسبقة ويريدون فقط تأكيدها، لكن هذا هو خطر هذه الظاهرة، إن كنت تبحث عن شيء محدد ستجده حتى لو كان غير معقول أو واقعي، الجانب الإيجابي هنا تراه عندما يدرك الفرد أنه أحاط نفسه بجدار وهمي، هذا يجعله أكثر حذراً في المستقبل وأكثر تمحيصاً للمعلومات.

Comments are closed.