منذ سنوات وأنا أبحث عن وثائقي عن التصميم لكن لم أجده، لا أتذكر شيئاً عنه ولا حتى اسمه لذلك كان البحث صعباً، هناك قوائم عديدة لوثائقيات التصميم ووصلت لواحدة وضعت برنامج أنتجته بي بي سي على رأس القائمة، هذا هو الوثائقي وهو من خمس حلقات، بحثت في يوتيوب ووجدت قنوات تحفظ حلقتين أو ثلاث لكن ليس كامل البرنامج، مع مزيد من البحث خارج يوتيوب وجدت قناة تحوي الحلقات الخمس.
إن كنت مهتماً فشاهدها أو أحفظها لديك لأنها قد تحذف في أي لحظة.
الحلقة الأولى تتحدث عن المصممين، من هم ماذا يفعلون وكيف بدأ التصميم، البرنامج يبدأ بملاحظة أن كل شيء حولنا صممه شخص ما وظيفته تخيل الأشياء وتصميمها ثم تحويلها لواقع، وفي أي مجتمع حديث الناس محاطون بأشياء صممها قلة من الناس، أنظر حولك الآن وسترى العديد من الأشياء التي صممها شخص ما، مثلاً الجهاز الذي تستخدمه لقراءة هذه الكلمات، هذا يبدو واضحاً وبديهياً لكن ربما تحتاج أن تنتبه له لأن المصممين يشكلون العالم من حولنا، ليس فقط من خلال الأشياء التي نشتريها بل من الآن وصل تأثيرهم للخدمات التي نعتمد عليها، الخدمات ليست شيء ملموس لكنها تحتاج لمصممين كذلك.
البرنامج يعرض نوعان من التفكير في عالم التصميم، الأول من خلال ديتر رامز المصمم الألماني ومبادئه العشرة للتصميم، رامز يرى أن المصمم عليه تصميم أشياء تختفي في بيئتها ولا تحاول أن تخطف انتباه الناس، تصاميمه بسيطة من ناحية الشكل لكنها تحوي تفاصيل صغيرة ذكية، وهذا ما يهتم به المصممون؛ تلك التفاصيل الصغيرة التي قد لا ينتبه لها أحد، يحاولون حل مشاكل صغيرة.
النوع الثاني من المصممين يمثلهم المصمم الأمريكي جاي مايز، جاي تخصص في تصميم السيارات منذ الثمانينات وانتقل بين عدة شركات إلى أن استقر في شركة فورد أوروبا وأصبح رئيس قسم التصميم والمسؤول عن تصميم عدة سيارات لشركات تملكها فورد، جاي يرى أن التصميم شيء عاطفي ووسيلة لإيصال قيم الشركة للمستهلكين لدفعهم لشراء السيارات، جاي يقول بأنك تستطيع معرفة من هو الشخص بزيارة منزله وتعرف ما الذي يريد أن يكون عليه برؤية سيارته.
المصمم يلعب عدة أدوار فهو الفنان أو الرسام، وهو كذلك المهندس أو عليه أن يعرف كيف تعمل الأشياء ليصممها وهو أيضاً يخدم أهداف المؤسسة التي يعمل لها، في نفس الوقت المصمم عليه معرفة عدة مجالات مثل التسويق والتمويل والتصنيع لكي يتعاون مع كل هذه الأقسام لصنع أي شيء.
في الماضي وقبل الثورة الصناعية المصمم كان هو الصانع، من يصنع الشيء يقرر وظيفته وشكله، التصميم كوظيفة وتخصص لم تبدأ إلا مع الثورة الصناعية وبدء التصنيع على نطاق واسع، والتصنيع يقوم على أساس فكرة أن الآلات يجب أن تعمل كالناس والناس يعملون كالآلات، قد يبدو لك هذا كلاماً فلسفياً فارغاً لكن هذا هو الواقع.
خذ مثلاً أمازون التي تحاول أن تجعل موظفيها في المخازن يعملون بأقصى درجة من الفعالية وهذا يعني مراقبة أدائهم بالكاميرات والحاسوب ومحاسبتهم على أي تأخير، أمازون حولت الناس إلى آلات يؤدون مهمات محددة مكررة يمكن حسابها وقياسها، وجعلت الحاسوب مراقباً، هذا النظام تعود أصوله لأكثر من مئة عام.
مهارة التصنيع قبل الثورة الصناعية قسمت لمهمات صغيرة يمكن لشخص غير مهار أداء واحدة منها، هكذا يمكن تعليم كل فرد في المصنع أداء مهمة واحدة في خط الإنتاج وهكذا يمكن رفع عدد الأشياء التي ينتجها المصنع، أما مهارة التصنيع والتصميم أصبحت في أيدي قلة من النخبة لا يعملون في المصنع.
خط الإنتاج بصورته الحديثة بدأ في شركة فورد وكان خط الإنتاج عالي الأداء واستطاعت شركة فورد صنع نصف سيارات العالم في ذلك الوقت لكن هنري فورد ظن أن خط الإنتاج سيستمر دون توقف وهو بالطبع ما لم يحدث، الشركات الأخرى أدركت أنها قادرة على إدخال تحسينات تتطلب تغيير خط الإنتاج جزئياً أو كلياً، هذا ما جعل فورد تتراجع في المنافسة لكنها غيرت طريقة عملها لتلحق بالآخرين.
شركات السيارات أدركت أنها بحاجة لتغيير السيارات لتستمر في بيعها ووصلت لنقطة أصبحت السيارات منتشرة ولم يعد إضافة تحسينات طفيفة تكفي لذلك أصبح دور المصممين أهم فغيروا تصاميم السيارات لتصبح أكثر أناقة وبألوان أكثر تنوعاً وأصبحت بعض الشركات تطرح سيارات جديدة أو تجدد سياراتها كل عام، السيارة أصبحت موضة ووسيلة للتعبير عن الذات، هذا ما يعنيه جاي مايز، السيارة ليست مجرد وسيلة نقل بل تغيرت لتصبح علامة على المكانة الاجتماعية أو وسيلة للتعبير عن النفس.
الحلقة تعرض مصممان من القرن التاسع عشر وردة فعلهما على ثورة التصنيع، وليام موريس كان يؤمن بأن الأشياء الجميلة يجب أنن تصنع في مكان جميل وآمن وهذا ما لم تكن عليه المصانع فقد كانت خطرة ويراها تسلب إنسانية العاملين، لذلك كان يصنع الأشياء في ورش صغيرة، لكن هذا أدى لارتفاع أسعار الأشياء التي يصنعها ويجعلها منتجات للأغنياء فقط وهو ما ضايق موريس طوال حياته، لأنه كان يهتم بجودة ما يصنعه ومهارة المصنعين لكنه لا يريد أن يصنع الأشياء بكميات كبيرة في المصانع، هذا التضارب بين الكم والجودة ما زال معنا.
المصمم الثاني كان كريستوفر دريسر الذي ترى أحد تصاميمه في صورة إبريق الشاي، كان يقود فريق من المصممين وتصاميمه صنعت في مصانع مختلفة، دريسر كان يعمل كما يعمل مصممو اليوم وخصوصاً المشهورين منهم حيث يؤسسون مكتب أو أستوديو للتصميم ويوظفون مصممين آخرين ويعملون لشركات عدة.
اليوم التصميم لا يمكن فصله عن الاقتصاد والسلوك الاستهلاكي فهو يؤثر على كل شيء وهذا الأثر إيجابي وسلبي والمصممون اليوم يدركون ذلك وبعضهم يحاول تغيير كيف تعمل أنظمة الإنتاج والتصنيع من الداخل.