في منتصف التسعينات ذهبت لمكة للعمرة وبعد العمرة ذهبت مع بعض الأصدقاء للتسوق ودخلنا محل يديره أندونيسي، نحن في الإمارات ننادي الهنود بكلمة رفيق وهي الكلمة التي استخدمها شخص هناك ليسأل عن سعر شيء ما، لا أذكر ما الذي كان يبيعه المحل لكن أذكر ردة فعل الأندونيسي الذي قال بغضب وتضايق واضح: أنا ما في رفيق، أنا صديق! فضحكنا لأن رفيق وصديق يشيران لنفس الفكرة، لكن هذا يبين جهلنا، لو كنا نعرف تاريخ أندونيسيا فربما سنكون على حذر ونستخدم كلمة صديق من البداية، كلمة رفيق يستخدمها الشيوعيون العرب للإشارة إلى الرفاق الشيوعين في كل مكان.
بالكاد أستطيع قراءة روايات هذه الأيام وقد كنت أفكر في ذلك قبل أيام لأتذكر ما الذي كنت أقرأه في الماضي، أتذكر أنني قرأت معظم روايات الروائي نجيب الكيلاني رحمه الله ومنه عرفت تركستان الشرقية ولم أسمع بها من قبل وقد كتب عنها رواية ليالي تركستان وكتب رواية عذراء جاكرتا التي تتناول انقلاباً مضاداً للحزب الشيوعي في ذلك الوقت وهذه فترة دموية عنيفة في أندونيسيا وما زال لها أثر، مع أنني قرأت الكثير للكيلاني ومن بينها رواية تدور أحداثها في الإمارات لكن ما بقي منها معي هما روايتي ليالي تركستان وعذراء جاكرتا.
بعدها بدأت أقرأ لأغاثا كريستي ولم أكن أعرفها لكن رأيت كتبها مترجمة واكتشفت حبي لروايات الجريمة، ثم وجدت روايات البرازيلي باولو كويلو الذي كان مشهوراً ولم أكن أعرف ذلك، كان شرائي للكتب يعتمد كثيراً على زيارة مكتبة ورؤية العناوين الجديدة هناك وشراء ما يجذبني منها، رواية الخيميائي ذكرتني بقصة مماثلة قرأتها في كتب الشيخ الأديب علي الطنطاوي رحمه الله، الفرق أن الشاب كان في بغداد وسافر لمصر وعاد لبغداد ليجد كنزه هناك.
ثم مع تحسن مستواي في اللغة الإنجليزية بدأت أقرأ روايات هاري بوتر وروايات أخرى ومن هنا بدأت أقرأ بعض روايات الخيال العلمي وهو نوع من الروايات لا أحبه لذلك قرأت القليل منه، من فروع الخيال العلمي عرفت أن هناك شيء يسمى ستيمبنك (Steampunk) وهي حركة بدأت أدبية لكنها تحولت لتغطي كل شيء آخر وقد كانت لفترة مشهورة في الشبكة، كان هناك ناشر كتب خيال علمي يخصص شهر للموضوع وقصصه القصيرة وكنت أحرص على قراءة كل شيء، باختصار الفكرة هي تخيل العالم كما لو أنه يعيش في القرن التاسع عشر ومع تطور تقني مختلف يعتمد كثيراً على محركات البخار.
الخيال العلمي لا يتخيل المستقبل فقط بل يضع عدسة على الحاضر وينتقده، ما قرأته من روايات الخيال العلمي كان أكثرها كئيب وأشعر بعد قراءتها بأنها فرغتني من أي أمل أو تفاؤل، لذلك فرحت عندما اكتشفت حركة أدبية مختلفة تسمى سولاربنك (Solarpunk) وهي حركة أدبية ترسم المستقبل بتفاؤل أكثر دون أن تتجاهل الحاضر لكنها تقف ضد اليأس وضد ما يروج له بعض الناس بأنه لا أمل في التغيير عندما يرون أن الأمور تزداد سوء أحياناً أو لا تتغير في حين أن التغيير الفعلي يحتاج لأجيال من الناس ولن يحدث في يوم وليلة، الفكرة بدأت بالأدب لكنها الآن حركة اجتماعية وسياسية لأناس يريدون تغيير العالم ليكون أكثر عدالة ولا يدمر البيئة.
جزء من هذه الحركة يشمل الناس الذين يصنعون الأشياء أو يحاولون العيش بأسلوب يتوافق مع تطلعاتهم وهذا يعني في الغالب استخدام مصادر طاقة نظيفة والاكتفاء الذاتي بقدر الإمكان وصيانة الأشياء بدلاً من شراء الجديد أو صنع الأشياء بدلاً من شرائها.
في موقع ريددت هناك قسمان أحب زيارتهما، الأول هو Cyberdeck وهو قسم متخصص لصنع حواسيب بتصاميم غير مألوفة، الثاني قسم Writerdeck وهو يشبه القسم الأول لكنه متخصص أكثر ويركز على الجانب العملي: صنع حواسيب مناسبة للكتابة، ما علاقة هذان القسمان بما كتبته أعلاه عن الروايات وأنواعها؟ صنع حواسيب غير مألوفة بدأ بفكرة في رواية كتبت في الثمانينات، الناس سأموا ما تقدمه الشركات من منتجات متشابهة وفي الغالب صنعت في نفس المصنع والشركات ليس لديها اهتمام لصنع حواسيب متخصصة لذلك الناس يبحثون عن غير المألوف، وفي البداية كان الهدف صنع قطعة فنية تبدو رائعة لكن ربما غير عملية ثم تحول الأمر إلى صنع شيء عملي وله استخدامات.
رأيت حاسوب كتابة أعجبني:
الجهاز يعتمد على رازبيري باي زيرو ونسخة خاصة من لينكس صغيرة الحجم ونصية وتعطي المستخدم إمكانية إنشاء وحفظ ملفات وتنظيمها في مجلدات وتشغيل معالج الكلمات، يمكنك شراء الجهاز من صانعه إن أردت لكن ستلاحظ أن سعره مرتفع وهذا أمر متوقع لأن كل جهاز يصنعه صاحب المشروع بنفسه ويطبع الغلاف ويركبه وهذا يكلف الكثير، مصدر البرنامج متوفر فهو برنامج حر وإن كان لديك خبرة في مجال الإلكترونيات يمكنك صنع واحد بنفسك وستوفر المال مقابل أن تنفق الوقت لصنعه.
صنع جهاز مثل هذا أراه لا يختلف كثيراً عن كتابة قصة لمستقبل أفضل، كلاهما نوع من مقاومة الواقع، نحن نحتاج لوضع الأفكار على الورق أو صنعها لكي يصبح لها وجود ويمكن أن نصفها ونتحدث عنها وربما نتطلع لها، ولا أطالبك بصنع حاسوب بتصميم خاص فهذا مجرد مثال، كتابة القصص وسيلة، تخيل الأفكار والكتابة عنها وكيف ستكون في الواقع أسلوب آخر، صنع الفنون على أشكالها وسيلة أخرى، كتابة كتاب صغير وطباعته وتغليفه ثم توزيعه بنفسك، هذا شيء مختلف وفي عالم رقمي سيكون له أثر أكبر من كتابة مقال على موقع ما وهناك وسائل أخرى.
القصة أو الرواية ليست مجرد تسلية بل وسيلة لنقل القيم والأفكار وللحفاظ على الموروث ونقله لأجيال المستقبل، وهي كذلك وسيلة لصنع مستقبل مختلف قد لا نراه يتحقق ولا بأس بذلك، كل شيء يبدأ بفكرة.
أعجبني جداً الربط بين الروايات والقصص وبين صنع الأشياء كما نريدها نحن لا كما يراد لنا .. هذا أمل مزمن طال انتظاره.
لي رغبة كبيرة في صنع حاسب للكتابة والأمور الأساسية الأخرى وقد يحدث ذلك أو لا يحدث لكن الحكاية مثيرة للخيال.
أنا سعيد لقراءة هذه التدوينة .. شكراً لك.
أجد أن أسهل طريقة لإنشاء حاسوب كتابة هو تجربة تثبيت نظام لينكس مبسط على حاسوب افتراضي مثل VirtualBox، وإعداده ليشغل فقط محرر نصي أو معالج كلمات، بعد ذلك يمكن التفكير في الجهاز لأن النظام جاهز وفي الغالب سيكون الجزء الأسهل لمن لم يتعامل من قبل مع صنع أجهزة.
وشكراً للكلمات الطيبة 🙂