عن الصورة الرومانسية للعمل في البقالة

الرسام: وليام فان ميريس

مرة أخرى أجدني أفكر بالرسوم المتحركة التي شاهدتها في طفولتي والتي أعطتني تصورات مثالية لما يجب أن تكون عليه حياة الناس، يمكنك استبدال المثالية بجملة “غير واقعية” إن أردت وستكون على حق، ما أراه وما يراه الناس في الرسوم المتحركة أو في الأفلام والمسلسلات أو حتى في ألعاب الفيديو ما هو إلا خيال يتمنى بعضنا أن يعيش فيه لأنهم غير قادرين على قبول الواقع الذي يجعل تحقيق بعض الأفكار إما صعب جداً أو حتى مستحيل.

المحلات في ألعاب الفيديو وفي الرسوم المتحركة مثال جيد، البقالة يديرها شخص ظريف محبوب يعرفه الجميع ويعرف الجميع والكل يقدره وهو بدوره يهتم بهم، الجيران يعرفون بعضهم البعض وعندما يجتمع بعضهم في البقالة يدور نقاش بينهم حول أي شيء؛ ماذا سيطبخون اليوم أو خبر مفجع في مكان بعيد، القرية – وهي دائماً قرية – تقع في مكان بعيد وتعيش في سلام.

لو كان ما أصفه لعبة فيديو وأنت اللاعب ستكون هناك محلات أخرى تزورها مثل مخبز يديره شخص مستدير؛ فلا بد أن يكون الخباز ذو وجه لطيف دائري وجسم كروي، وهناك اللحام ذو العضلات وشنب كثيف وصوت عميق ثقيل وربما ضحكة يسمعها الناس عبر الحدود، هناك كذلك الحداد فكل قرية تحتاج لواحد يصنع … ما الذي يصنعه الحداد؟! في ألعاب الفيديو غالباً الأسلحة والدروع لكن في الواقع الحداد يصنع أدوات الزراعة مثلاً وكذلك قطع للمنزل مثل إطارات النوافذ وكذلك قطع زينة، قد يصنع الأقفال والمفاتيح وغير ذلك.

بالطبع القرية لا بد أن فيها نزل يعمل كمطعم كذلك ومكان لتجمع الناس، هذا ما تراه في ألعاب الفيديو وكذلك بعض الأفلام والمسلسلات وهذا ما كان عليه واقع الناس في الماضي.

الآن عد إلى الواقع، كثير من الناس يعيشون في واقع مختلف كلياً عن هذه الصورة، تشكيل علاقة مع البقّال؟ هذا لا يحدث والبعض يعيشون في ضواحي ليس فيها بقالة (مثل المنطقة التي أعيش فيها حالياً!) بل محلات كبيرة وبعيدة وهذه المحلات لا يمكن أن تشكل فيها علاقة شخصية مع أي عامل هناك ولا حتى مع المتسوقين، الكل هناك لشراء ما يريدونه ثم الخروج.

أيضاً الجيران لا يعرفون بعضهم البعض وبالطبع لا أعمم، ما أظنه هو التالي: في الدول الغنية حيث الفرد يمكنه الاعتماد كلياً على المؤسسات الحكومية والخاصة لتلبية احتياجاته ولن تكون هناك حاجة للتواصل مع الجيران أو الاعتماد عليهم، هذا يختلف عن واقع الناس في دول فقيرة حيث التعاون مع الآخرين ضروري.

هناك أيضاً عوامل أخرى مثل التقنية وطبيعة العمل في المجتمعات الحديثة حيث لا يتبقى الكثير من الوقت للفرد وفي الغالب سيختار الفرد قضاء وقت مع أقرب الناس له، العائلة والأصدقاء، زمالة العمل قد تكون للبعض البديل الأفضل لأنهم يفتقرون لأي علاقات جيدة خارج العمل، والمدرسة تصبح للطلاب هي الوسيلة الوحيدة لتكوين الصداقات وهذا أمر انتقدته في الماضي كثيراً وأراه ظاهرة سلبية لأن الطالب في العمر الذي يفترض أن يستطيع تشكيل صداقات في المنطقة التي يعيش فيها، لكن الجيران لا يتواصلون وبالتالي الأطفال لا يعرفون أطفال الجيران.

تخطيط المدن والضواحي عامل آخر، انتشار الناس على مساحة كبيرة وانتقالهم لمناطق جديدة مصممة على أساس استخدام السيارات، إن كان الناس في سياراتهم فهذا يعني فرص أقل للقاء الناس مقارنة بالمناطق المصممة للمشاة.

أعود للبقّال السعيد الخيالي في الرسوم المتحركة أو ألعاب الفيديو، هذا الشخص سعيد بعمله وهذا شيء خيالي آخر، طبيعة العمل في المجتمعات الحديثة تجعل الفرد مجرد قطعة في آلة ضخمة وقطعة يمكن استبدالها بسهولة، الفرد يدرك ذلك ويجعله غير راض عن عمله، المؤسسات الكبرى تستغل العمالة الرخيصة وغير الرخيصة، الماهرة وغير الماهرة، الشخص في هذه المؤسسات لا يختار ما يصنعه بل يفرض عليه صنع ما تمليه عليه المؤسسة، وإن كان ماهراً ومهارته تساهم في أرباح المؤسسة فلن يجد مقابل ذلك سوى راتبه أما الأرباح فهي لمالكي رأس المال أو حملة الأسهم.

طبيعة العمل في هذه المؤسسات تجعلها تستغل الزبائن وموظفيها، قد تجبر المؤسسة الموظفين على فعل شيء لا يرغب فيه الموظفون ويرونه غير أخلاقي ويضر بسمعة المؤسسة لكن المدراء لا يكترثون ويرون أن الربح أو تقليل التكاليف أكثر أهمية والسمعة المتضررة لن تؤثر سلبياً عليهم.

بمعنى آخر الحياة الحديثة وطبيعة العمل اليوم تجعل الإنسان يشعر بالغربة، وتصبح الاستهلاكية الوسيلة الأهم ليجد الفرد شيء من السعادة، لم يعد العمل مصدر للفخر أو للسعادة بل هو مصدر التعاسة للكثيرين لكنهم مضطرون للعمل لأنهم يريدون دفع تكاليف الحياة.

يفترض بالعمل أن يكون مصدراً للفخر والسعادة، لاحظ أقول العمل وليس الوظيفة والتفريق بينهما أمر مهم بالنسبة لي، لأن العمل لا يعني بالضرورة وظيفة بل قد يكون هواية أو تطوعاً أو صنعة مثل الحداد في القرية، لكن كل هذا يتطلب من المجتمعات الحديثة أن تتغير كثيراً وربما جذرياً وهذا لن يحدث بسهولة أو بسرعة … إن كانت شاباً تقرأ هذه الكلمات فأتمنى أن تجد مجتمعاً أفضل في مستقبلك.

أعترف أنني بدأت كتابة هذا الموضوع دون تخطيط مسبق ولا حتى معرفة ما أريد أن أقوله سوى المقارنة بين التصورات الخيالية للبقالة وواقع المجتمعات اليوم، هذا جرني للقراءة عن نظرية الاغتراب عند ماركس ووجدتني أوافقه على الكثير من أفكاره.

2 thoughts on “عن الصورة الرومانسية للعمل في البقالة

  1. كتبت رواية صغيره لليافعين عن ما ذكرته بالضبط
    رواية فيها تصوراتي عن تلك العلاقات المختلفة و التصورات الحميمة لقرية صغيره أتمنى لو عشت بها يوماً.
    الرواية فازت بجائزة اتصالات لأدب الأطفال 2021🙂

    1. ما شاء الله، من بحث سريع وجدت عدة كتب من مؤلفاتك، هل الرواية “كرة برتقالية اللون”؟ مؤخراً بدأت أهتم أكثر بكتب الأطفال واليافعين وقد كتبت سابقاً في هذه المدونة مشجعاً الجميع على قراءتها.

Comments are closed.