عندما تضيق بك الدنيا

كنت أسير مع صديق وقد كان الوقت في الظهيرة، الشمس فوقنا والجو حار ومشينا لوقت طويل وقد كنت متعباً ومتضايقاً وكل ما أريده هو أن نصل إلى المنزل، الصديق كان يلح علي بسؤال مرة بعد مرة ولا أذكر السؤال أو لماذا لم أجبه أو هل أجبته بكلمة بعدين؟ لا أذكر، ما أذكره وما بقي معي إلى اليوم أنني انفجرت غاضباً وصرخت في وجهه طالباً منه السكوت.

لا تغضب، كررها ثلاث مرات أفضل الخلق عليه الصلاة والسلام، وهي نصيحة من السهل أن نفهمها، ببساطة لا تغضب، لكن هذا أمر لا يطيقه بشر فنحن سنغضب ونتضايق ويصيبنا الهم والغم والحزن وكل له نصيب من ذلك، الغني والفقير، الصغير والكبير، لذلك في حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام: ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب.

عندما يقول لا تغضب فهذا يعني ألا تفعل شيئاً بدافع الغضب يجعلك تندم عليه بقية حياتك. الدنيا ستختبر كل واحد منا في امتحانات صغيرة وكبيرة، وقد فشلت في امتحان الأمس الصغير الذي يبدو وكأنه جاء في الوقت المناسب ليخبرني أن ما أكتبه عن الغضب ما زال مشكلة أعاني منها وعلي ألا أظن يوماً بأنني لم أعد بحاجة لهذه النصيحة.

ابن أخي يريد عشاء وأنا أحاول أن أجعله يتكلم لكنه خجول ويشير إلى الأشياء أو يفعل ما يريد دون كلام وهذا يضايقني كثيراً، سألته أكثر من مرة ولا يجيبني ومع الإزعاج المحيط بي فقدت أعصابي بسرعة، بعد تكرار السؤال بدأت أرفع صوتي وهذا أمر يفترض ألا أفعله، سألته إن كان ما وضعت له من عشاء يكفيه فلم يجبني وذهب وهو يحمل عشائه وأنا أغلي من هذا الموقف الصغير والتافه والذي يفترض ألا يجعلني أغضب، رفعت صوتي أكثر لكي أجر إجابة منه ولا أدري ما الذي أستفيده أو يستفيده هو من ذلك لكنه الغضب يعمي القلب والبصيرة.

عدت لغرفتي وأنا متضايق من كل شيء، تذكرت أنني كنت مثله عندما كنت صغيراً، كنت أخجل أو أخاف من الكبار وعندما يلح أحدهم علي بالسؤال ورفع الصوت أجد نفسي انسحب أكثر للداخل وأخشى أكثر من الإجابة والآن أفعل نفس الشيء مع ابن أخي، خرجت لأبحث عنه ووجدته يلعب فاعتذرت له، لم ألمه على شيء ووعدته ألا أرفع صوتي مرة أخرى عليه.

لم أندم على شيء مثل ندمي على لحظات غضب جعلتني  أؤذي البعض، عندما أفكر في ما قررته بخصوص التعليم والعمل وتضييع بعض الفرص أجد نفسي غير مكترث بهذا وبالكاد أشعر بالندم، لكن لحظات الغضب؟ هذه ستبقى معي حتى آخر العمر وأتذكرها جيداً وسيتذكرها كذلك كل من كان في الطرف الآخر، ما الذي دفعني لإيذاء الآخرين؟ شيء من الكبرياء المتخفي الذي يتنمر بمجرد أن يجرحه أحد بكلمة، ظننت أنني تخلصت منه لكنه ما زال يطل بوجهه بين حين وآخر.

الغضب له أقنعة كثيرة وكلها بشع، أن ترفع صوتك على شخص لأي سبب، أن تتنمر على شخص ضعيف وتسخر منه، ألا تصبر على الأذى خصوصاً الصغير منه وتجعله ذريعة لنوبات غضبك، أن تخزن في قلبك الضغينة على شخص وتستخدم ذلك لتقول ما يجرحه ويؤذيه أو تجعل الغضب يتراكم ليتحول إلى حقد وكراهية.

لا تتصرف بطيش عندما تغضب، لا تترك ذلك الكبرياء يتحكم بتصرفاتك عندما تغضب، والدنيا ستختبر قوتك وشدتك بأن تضيق عليك في أيام حتى تشعر ألا مفر لك منها وعندها ستجد اختباراً آخر، عندها تذكر الحديث وقول سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام.

الغضب هو نوع من الرغبة في التحكم بالآخرين ومحاولة تغيير من هم لتتوافق تصرفاتهم مع ما نريده، لكن هذا مستحيل، ما يمكن التحكم به هو تصرفاتنا وما نفعله بطاقتنا، نحن غير مسؤولين عن تصرفات الآخرين وإن أغضبتنا فعلينا أن نصبر حتى يذهب الغضب ثم نفكر بأفضل ما يمكن أن نفعل، هذا نظرياً سهل وعملياً صعب، لو كان من السهل التحكم بردات فعلنا عندما نغضب لما كانت هناك حاجة للنصيحة حول التعامل مع الغضب، وهي فكرة كتب عنها القدماء وسيبقى الناس يكتبون عنها لأنها طبيعة في البشر.


هذا الموضوع هو مشاركة في مبادرة الأخ عامر حريري علمتنا الحياة

4 thoughts on “عندما تضيق بك الدنيا

  1. لم أندم على شيء مثل ندمي على لحظات غضب جعلتني أؤذي البعض، عندما أفكر في ما قررته بخصوص التعليم والعمل وتضييع بعض الفرص أجد نفسي غير مكترث بهذا وبالكاد أشعر بالندم، لكن لحظات الغضب؟ هذه ستبقى معي حتى آخر العمر وأتذكرها جيداً وسيتذكرها كذلك كل من كان في الطرف الآخر، ما الذي دفعني لإيذاء الآخرين؟ شيء من الكبرياء المتخفي الذي يتنمر بمجرد أن يجرحه أحد بكلمة، ظننت أنني تخلصت منه لكنه ما زال يطل بوجهه بين حين
    هذه السطور قوية فعلا.. شكرا على المشاركة الملهمة

  2. أبدعت يا أستاذي، نعم الغضب أتعبني التخلّص منه أو تقليله، الدراجة الهوائية لعبت دورًا كبيرًا في إحكام السيطرة عليه قليلًا الحمدلله.
    لكن مازالت مستمرًا محاولة السيطرة عليه.

    1. الرياضة تساعد بلا شك، أي وقت تقضيه مع نفسك سواء كنت تمشي أو على دراجة هوائية أو تمارس التأمل؛ هذا الوقت يمكن استخدامه لتذكير النفس بما هو مهم وإعدادها للأوقات الصعبة.

Comments are closed.