في السبعينات من القرن الماضي بدأ أفراد في تطوير حواسيب شخصية لأنفسهم وبعضهم بدأ في بيعها ومن هذه الفترة ظهرت حواسيب كثيرة في الثمانينات ما زال لها أثر حتى اليوم وما زال بعض الناس يطورون لها ألعاباً وبرامج ويكتبون عنها وعن كل صغيرة وكبيرة فيها، لأن هذه الحواسيب كانت بداية عصر الحواسيب الشخصية وقد كانت في ذلك الوقت بسيطة تقنياً وإمكانياتها محدودة ولاستغلالها على الفرد أن يبرمجها.
الحاجة لبرمجتها أدى لظهور أندية ومجموعات حواسيب وكذلك مجلات حواسيب تنشر برامج في صفحاتها ويمكن للقارئ أن يكتب هذه البرامج في حاسوبه ويجربها ويمكنه كذلك أن يرسل برامجه للمجلة لتنشرها للآخرين، كانت فترة تعلم وتعليم ومشاركة بالمعرفة وبوسائل عدة، لا غرابة أن يكتب الناس عن هذه الفترة وذكرياتهم ولا غرابة أن يحتفظ البعض بأجهزتهم القديمة ويستخدمونها إلى اليوم.
في هذا الموضوع سأتحدث عن تجربة حاسوب منزلي لكن ليس من أمريكا أو بريطانيا بل من بلد لم يعد موجوداً: يوغوسلافيا.
اتحاد جمهورية يوغوسلافيا الاشتراكية كانت دولة من ضمن ما يسمى بالكتلة الشرقية وهي مجموعة دول تتبع الاتحاد السوفيتي وإن كانت مستقلة وهي دول شيوعية حكمت شعوبها بنفس نظام الاتحاد السوفيتي، هذه نتيجة الحرب العالمية الثانية عندما بدأ العالم يدرك أن الاتحاد السوفيتي قوة منافسة لأمريكا ومنذ ذلك الوقت بدأ ما يسمى بالحرب الباردة التي استمرت حتى انهيار الاتحاد السوفيتي في 1989.
أذكر الأخبار في فترة الثمانينات وكان مصطلح الكتلة الشرقية يتكرر كثيراً في ذلك الوقت، في الثمانينات بدأت تغييرات جذرية ستؤدي في النهاية إلى نهاية الحكم الشيوعي في هذه البلدان ونهاية سيطرة الاتحاد السوفيتي عليها وانهيار الاتحاد نفسه ثم تحول هذه الدول إلى دول تمارس الديموقراطية في الحكم وتتبنى الرأسمالية كنظام اقتصادي، هذا التحول وهذه الفترة تستحق أن تقرأ عنها أو على الأقل تشاهد برامج وثائقية عنها.
الاتحاد السوفيتي حاول منع دول الكتلة الشرقية من الاتصال بالدول الغربية وصنع ما يسمى بالستار الحديدي بسبب سياساته التي منعت الناس من السفر والتواصل مع دول غرب أوروبا وأمريكا والدول الحليفة لها ويحد من التواصل التجاري، هذا الستار ليس له وجود، هو سياسات وقوانين وضعها الاتحاد السوفيتي وشكلت حاجزاً غير مرئي يقسم أوروبا إلى دول شرقية تابعة له ودول غربية عدوة له، إلا في ألمانيا حيث كان هناك جدار يفصل برلين بين ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية، انهيار سور برلين كان رمزاً لانهيار الحكم الشيوعي في أوروبا وروسيا وبداية حقبة جديدة.
يوغوسلافيا كانت دولة مختلفة عن باقي دول الكتلة الشرقية، ففي عام 1948 حدث خلاف بين الرئيس اليوغوسلافي تيتو وستالين أدى إلى أن تتبنى يوغوسلافيا مبدأ الحياد في الحرب الباردة وأسست حركة عدم الانحياز، وكانت يوغوسلافيا مستقلة عن الاتحاد السوفيتي اقتصادياً وسياسياً على عكس باقي دول الكتلة الشرقية، وحاولت يوغوسلافيا أن تنوع أنشطتها الاقتصادية وتجرب أنظمة مختلفة لإدارة الموارد، الاقتصاد اليوغوسلافي بحاجة لمقال خاص به وليس لدي الخبرة أو المعرفة لتغطية هذا الموضوع.
هذه المقدمة الطويلة كانت ضرورية لأنني أخمن بأن كثير من قراء هذه المدونة يحتاجون لتذكير بما حدث وبالوضع الاقتصادي في يوغوسلافيا.
في الثمانينات بدأت الحواسيب الشخصية بالظهور والانتشار عالمياً ودول الكتلة الشرقية كان لها نصيب من هذه الحواسيب، في بريطانيا ظهر حاسوب زيد أكس سبكترم (ZX Spectrum) في 1982 وقد كان جهازاً بسيطاً ورخيصاً ومع ذلك كان من الصعب شراءه واستيراده إلى دول الكتلة الشرقية بسبب قوانين الاستيراد وكذلك بسبب تكلفته، هذا ما أدى لظهور نسخ مقلدة منه في كل دول الكتلة الشرقية وأكثرها لم يكن رسمياً.
فويا أنتونيتش كان في إجازة وكان يفكر بتصميم حاسوب شخصي يمكن لأي شخص في يوغوسلافيا صنعه في المنزل، فويا كان مخترعاً هاوياً للإلكترونيات وكان في المكان والوقت المناسب ليصمم ويصنع حاسوبه الشخصي فهو ككثير من الناس في يوغوسلافيا غير قادر على شراء حاسوب لكن القطع التي تشكل الحاسوب متوفرة ويمكنه تجميعها في جهاز واحد ليصنع ما يريد.
قرر فويا أن يكون معالج حاسوبه هو Zilog Z80 وهو معالج 8-بت رخيص وهو كذلك نفس معالج جهاز زيد أكس سبكترم، والمعالج سيكون المسؤول عن رسم الشاشة بدلاً من استخدام معالج خاص وهذا يخفض التكلفة لكن يجعل الحاسوب ضعيفاً من ناحية الإمكانيات لأن جزء كبير من طاقة المعالج تذهب لرسم الشاشة.
كانت خطة فويا أن ينشر مخطط الجهاز للجميع، في نفس الوقت كانت هناك مجلة يوغوسلافية علمية تسمى Galaksija (تنطق جلاكسيا) تخطط لبدء مجلة خاصة للحاسوب، وقد نشر مخطط الحاسوب ودرس كيفية بناءه في أول عدد منها وسمي الحاسوب باسم المجلة العلمية، من أول عدد لمجلة الحاسوب بدأ الناس في يوغوسلافيا في صنع حواسيبهم الشخصية بالاعتماد على المخطط وبدأ تشكل مجتمع يدور حول هذا الجهاز.
فويا ومحرر المجلة خمنوا بأن عدد من سيصنع الجهاز بنفسه من قراء المجلة سيكون خمسين كما خمن فويا، ومئة كما خمن كاتب للمجلة، وخمسمئة كما خمن محرر المجلة، كلهم كانوا على خطأ، بعد أشهر من نشر العدد الأول وصل عدد الحواسيب التي صنعت لأكثر من ثمانية آلاف جهاز، العدد الأول من مجلة طبع منه ثلاثون ألف نسخة ثم ثلاثون ألفاً أخرى ثم أربعون ألفاً لأن طلب الناس على العدد لم يتوقف.
الجهاز لم يكن له غلاف ويمكن شراءه كقطع غير مجمعة من فويا وأصدقاءه ويمكن كذلك للفرد أن يشتري القطع بنفسه ويجمعها، هذا أدى إلى أن يكون لهذا الجهاز تصاميم عديدة ومختلفة، بعض الناس صمموا صناديق في غاية الإتقان وأكثرهم اعتمد على الخشب كمادة لصنع الصندوق.
الجهاز يمكنه التعامل مع جهاز تخزين يعتمد على أشرطة الكاسيت وقد كانت هذه وسيلة تخزين بيانات وبرامج بسيطة و رخيصة نسبياً، محرر مجلة الحاسوب كانت لديه فكرة جريئة وهي بث البرامج من إذاعة ويمكن للمستمعين تسجيلها على الأشرطة! وهذا ما حدث في إذاعة بلغراد، في برنامج محدد يعلن المذيع فيه عن فترة بث البرنامج لكي يستعد الناس بأجهزة الكاسيت ويسجلونها في الوقت المحدد.
استمر بث الإذاعة للبرامج وبثت أكثر من مئة وخمسين برنامجاً لحاسوب جلاكسيا وحواسيب أخرى، الناس كانوا يرسلون برامجهم للإذاعة للمشاركة بها، حاسوب جلاكسيا استمر كجهاز يصنعه ويستخدمه الناس ثم ظهر كجهاز جاهز يمكن شراءه واستخدم في مؤسسات التعليم.
لكن يوغوسلافيا نفسها لم تستمر، تيتو الذي حكمها لعقود مات في أوائل الثمانينات وبموته بدأت أزمة اقتصادية وبدأت صراعات عرقية أدت إلى بداية حروب البلقان في التسعينات وقد كانت حروباً عنيفة ودموية، فويا تخلص من حواسيب جلاكسيا في 1995 لأنه لم يعد أحد يهتم بهذه الأجهزة القديمة، لكن بعد سنوات عاد الاهتمام بها وكتب عنها وعرضت في متحف العلوم والتقنية في بلغراد.
للمزيد:
- مقال عن الجهاز في Tribune
- نقاش في هاكرنيوز حول المقال والحاسوب
- مقال في Eurogamer
- فيديو عن الجهاز، يركز أكثر على الجانب التقني وبالتفصيل
- محاكي للجهاز
- غلاف مجلة الحاسوب التي نشرت مخطط الجهاز
- المقال الذي يشرح صنع الحاسوب
لاحظ أن الحاسوب كان مفتوح المصدر وبرامجه كانت حرة وهذا قبل ظهور حركة البرامج الحرة، في تلك الفترة كان الناس يشاركون بالمعرفة والبرامج لأنهم بحاجة لذلك ولأن طبيعة الحاسوب كانت تقنية أكثر في ذلك الوقت، الحاسوب لم يتحول بعد لجهاز يستخدم في كل مكان، لذلك كانت هناك حاجة للمشاركة بكل شيء لكي يستفيد الناس ويتبادلون الخبرات.
الجهاز كان نقطة البداية ثم أصبح الدافع للناس لتعلم تصنيع وتجميع الحاسوب وصنع صندوق له ثم برمجته ومشاركة الآخرين بالبرامج وتبادل الخبرات، هكذا تكون مجتمع من الناس حول الجهاز وهذا لا شك أدى لتشكيل صداقات وتعلم أفراد الحاسوب وعلومه ليستخدموا هذه المعرفة في مجالات أخرى، الحاسوب استخدم للتصنيع ولإدارة المكاتب وفي التعليم كذلك.
هل يمكن تكرار التجربة اليوم؟ يمكن ذلك لكن بصعوبة نظراً لتوفر كل شيء اليوم، في الثمانينات كانت شبكة الإنترنت شيئاً أكاديمي لم يصل لمعظم الناس وكانت المصادر والخبرات محدودة ولكي يشتري أو يصنع شخص ما حاسوباً فهو بحاجة للآخرين ليتعلم وليجد القطع المناسبة، اليوم المعرفة متوفرة والحواسيب منتشرة، لبدء مجتمع مماثل يصنع حواسيب شخصية ويبرمجها ويتبادل الخبرات يحتاج من يبدأ هذا المشروع أن يبذل جهداً كبيراً وليس هناك ما يضمن نجاح جهوده، لأن الناس لديهم ألف شيء آخر يجذب انتباههم.
حاسوب صخر كان الحاسوب المنزلي للعرب وأود لو أن التجربة تتكرر اليوم لكن بشكل مختلف، حقيقة حلمي أن يكون هناك مجتمع عربي للحواسيب المنزلية، ولست أعني أن نتخلى عن حواسيبنا الشخصية وهواتفنا، بل أن يكون الحاسوب الشخصي هواية جانبية، حاسوب بسيط يمكن للفرد فهمه كلياً ويمكن برمجته بسهولة.
تحديث1: أضفت رابط للمقال الذي نشر في المجلة
شكرًا على اللمحة التاريخية .. تبدو أياما جميلةً مليئة بالشغف.
شكرا على المقالة الملهمة
شكراً على الكلمات الطيبة، الحواسيب في ذلك الوقت كانت شيئاً جديداً وامتلاك واحد كان حلماً للكثيرين، لا غرابة أن ترى هذا الشغف.
من أهم مقومات نجاح تلك الحواسيب هو المعالج Z80 وتوفره بسعر مناسب، لكن لا أدري لماذا لم يتطور، وحل محله معالجات Intel غالية الثمن
لم يخطر في ذهني أن أسأل عن ذلك، بالفعل لماذا لم يطور المعالج؟ لعلي أكتب عن ذلك إن وجدت إجابة.
مقال جميل ومثير للحماس وبخاصة الجزء التاريخي منه … تخمينك صحيح مئة في المئة … رحم الله تلك الأيام الذي كان مستخدم الحاسب فيها ليس مجرد مستهلك للتقنية بل مشارك في صنعها قبل أن يأتي الرأسماليون ثقيلوا الظل ويفسدوا كل شيء … صنع حاسب شخصي فكرة جميلة وأظن أن تنفيذها أسهل الآن مع وجود خيارات كثيرة وأدوات أفضل وأقوى ولكن المشكلة تكمن بنظام التشغيل … يجب أن يوجد نظام تشغيل بسيط عديم الخدمات … عبارة عن بيئة عمل برمجية لكتابة البرامج وتشغيلها … ما هو المفيد من هذا كله !؟ أن لا نبقى مجرد مستهلكين فقط وأن تصنع البرامج بنفسك وهذا يحافظ على الخصوصية أيضاً … هناك العديد من الأمور التي تستطيع إتمامها بهذا الحاسب الشخصي .. كتابة الملاحظات والمستندات النصية على أقل تقدير … لن يكون الحجم مشكلة في هذه الأيام … المهم أن يكون وحدة متكاملة وان لا يكون متعدد القطع
أتمنى أن يوجد مجتمع عربي معني بهذا.
شكراً على هذا المقال .
القيود تدفع الناس للإبداع، لو أن فويا كان لديه كل شيء ويمكنه شراء حاسوب بسهولة فربما لن يبدأ مشروع الحاسوب، والآن أفكر بالأمر، نحن في عصر الوفرة علينا أن نضع قيود لأنفسنا وإلا لن نجد الدافع لفعل شيء.