بينتو: قابلة للانفجار على أي سرعة

بعد الحرب العالمية الثانية وجدت شركات السيارات الأمريكية سوقاً جائعاً لمنتجاتها وهذه الشركات أتقنت صنع سيارات كبيرة الحجم أو متوسطة الحجم وتجاهلت السيارات الصغيرة إلا استثناءات قليلة، في الستينات بدأت شركات ألمانية ويابانية في تصدير سياراتها الصغيرة إلى أمريكا وقد وجدت سوقاً صغيراً لكن نائب مدير شركة فورد ليو إيكوكا كان قلقاً منهم ويريد أن ينافسهم في بيع السيارات الصغيرة حتى لا يترك لهم مجال في الاستحواذ على أي حصة من السوق الأمريكي، لاحقاً أصبح ليو مدير شركة فورد ومباشرة بدأ مشروع تصنيع سيارات صغيرة وهذا ما فعلته شركات أخرى في نفس الوقت تقريباً.

ليو فعل ما يفعله مدراء كثر: طلب إنجاز الكثير في وقت قليل، تطوير سيارة صغيرة لا يزيد وزنها عن 2000 باوند ولا يزيد سعرها عن 2000 دولار (تقريباً 15700 اليوم) وينجز تصميم وتصنيع السيارة في 25 شهراً، هذا وقت قصير جداً لتطوير سيارة جديدة تماماً، شركات السيارات اليوم تعتمد كثيراً على مشاركة أجزاء بين سياراتها لتقليل التكلفة بما في ذلك أساس السيارات، وفورد كان لديها سيارات صغيرة في أوروبا كان بالإمكان استخدام قطع منها للسوق الأمريكي، هذا لم يحدث وبدلاً من ذلك سارع مهندسو فورد لتصميم وتصنيع السيارة وتقليل التكلفة بقدر الإمكان، وكان لهذا أثر سلبي على المنتج النهائي.

بسبب التصميم وضع خزان الوقود في خلف السيارة وبدون الكثير من الدعم، هذا يعني أن أي حادث اصطدام من الخلف يمكن أن يتسبب في احتراق السيارة، مهندسو فورد كانوا يعلمون ذلك لكن لم يجرأ أحد على تأخير تطوير السيارة لأي من عيوبها فالمدير كان صارماً ويريد سيارة بسرعة، كذلك فورد حسبت تكاليف حل عيوب السيارة ووجدت أن التكلفة ستصل إلى 11 دولار لكل واحدة، في المقابل عدم فعل ذلك سيكلفها أقل عندما تدفع تعويضات لضحايا السيارة، وهكذا قررت الشركة عدم فعل شيء لكنها ستجبر لاحقاً على استعداء السيارات المصنعة وحل مشاكلها.

بسبب مشكلة خزان الوقود فقد 27 شخصاً حياتهم هذا دون حساب من تشوه بسبب الحروق، دفعت الشركات تعويضات لهم وتسببت هذه الحرائق في تدمير سمعة السيارة وتراجعت مبيعاتها ومع ذلك استطاعت فورد بيع أكثر من 3.1 مليون سيارة فورد بينتو وستبقى سمعة السيارة مشوهة إلى اليوم، لكن بعض من كتب عنها أو صنع فيديو عنها يرون أن الأمر مبالغ فيه مقارنة بالسيارات الأخرى في نفس الفترة حيث كانت كل السيارات غير آمنة وهذا صحيح، تبقى المشكلة أن هناك وثيقة من فورد تقارن تكلفة إصلاح عيوب السيارة بتكلفة دفع تعويضات للضحايا وقد اختارت الشركة الخيار الاقتصادي بدلاً من الأخلاقي لأنه أرخص.

ليست المرة الأولى التي تقرر فيه شركات السيارات تقديم مصالحها التجارية على الصالح العام، قبل ذلك كل من فورد وجينرال موتورز كانوا على علم تام بموضوع الاحتباس الحراري الذي تساهم فيه وسائل النقل وتجاهلوا الأمر كلياً، نفس الأمر مع تطوير وقود مزود بالرصاص الذي كان معروفاً أثره السلبي على الناس ومع ذلك تجاهلت الشركات ذلك وقررت استخدامه بدلاً من تطوير محركات تعمل بدونه، أنا أكتب فقرة واحدة هنا عن هذا الموضوع الذي يحتاج لكتاب لكي أتحدث عن التفاصيل، ببساطة تلوث الهواء بالرصاص تسبب في تراجع ذكاء الناس ورفع معدل الجرائم.

هذا الفيديو يعرض تاريخ السيارة وأراه متوازناً:


شركات غربية كثيرة تفضل مصلحتها المالية حتى لو كانت على حساب الآخرين أو البيئة أو ستتسبب في ضرر لأنها تقيس الخطر بمقياس مالي، من السهل ارتكاب الخطأ ثم دفع تعويض مقارنة بفعل الشيء الصحيح أخلاقياً والذي سيكلفها المزيد من المال، وأسلوب التفكير الرأسمالي هذا أصبح عالمياً وليس محدوداً بالشركات الغربية، لذلك أجد ألف مشكلة عندما يتكرر الأمر عندنا في العالم العربي والإسلامي لأن الشركات تحاكي بعضها البعض، ومشكلتي مع أسلوب التفكير هذا يتعدى ارتكاب الأخطاء لأنني أجد مشكلة حتى عندما تفعل الشركات شيئاً صحيحاً!

أبل أعلنت عن آيفون وغيرت طبيعة الهواتف الذكية (التي كانت موجودة قبل آيفون) وخلال سنوات قليلة أصبح الهاتف هو الجهاز الأهم الذي يحمله معظم الناس ثم تحول إلى أداة ضرورية للعيش في أي مجتمع حديث، عدة شركات تقنية ظهرت في هذه الفترة لتضع نفسها بين الناس وتتحكم بالعلاقات بينهم وتستفيد من الطرفين، وضعت نفسها بين البائع والمشتري، بين الراكب والسائق، بين السائح وصاحب البيت أو مكان الإقامة، والهدف هو رفع الكفاءة أو الفعالية لأي عملية بإلغاء أي عنصر بشري وأتمتت كل شيء بقدر الإمكان وهكذا يمكن للفرد أن يقضي يومه دون أن يرى أو يكلم أحداً لأن مطورين في كالفورنيا قرروا أن الحديث مع الناس شيء يكرهونه.

عندما يخرج الغرب بأفكار مثل العملات الرقمية تجد من يشجعها هنا ويتبناها ويجربها ويقف مدافعاً عن أي نقد موجه لها، كذلك الحال مع NFT (هل تذكرها؟) والآن الذكاء الاصطناعي ويتعامل مع هذه الأدوات بأسلوب نفعي دون أي تفكير في طبيعة مجتمعاتنا، تطرح مقالات مطولة تناقش كل شيء عن هذه التقنيات إلا الجانب الفلسفي والأخلاقي، نتبنى التقنيات لأنها أكثر كفاءة وأسرع وأسهل (لدي شك في ذلك) دون أن نسأل ما الذي سنخسره من هذه السرعة والكفاءة؟

كنت في الماضي أتمنى أن يصبح كل شيء رقمي وأن أتسوق رقمياً وأنجز معاملات رقمياً لأنني كنت أظن أن هذا سيوفر علي الوقت، الآن أجدني أود أن تعود المؤسسات لتقديم الخدمة وجهاً لوجه دون أن تتخلص من خدماتها الرقمية، الآن أصبحت أفضل الحديث مع الناس لأن الحاسوب لا روح فيه، إن حدث خطأ فلا يمكنك نقاشه بينما الحديث مع إنسان يعني إمكانية الوصول لتفاهم.

قبل أيام أردت إنجاز معاملة من مؤسسة وقد حاولت ذلك قبل أسابيع بالاتصال برقمهم المجاني الذي يجعلني أتحدث لحاسوب وأستمع خياراته ثم أضغط على الأرقام على أمل أن أصل إلى إنسان لكن هذا لم يحدث، النظام يخبرني بأن رقم حسابي خطأ بينما هو رقم صحيح، لذلك فعلت شيئاً مختلفاً، بدأت دردشة نصية في موقع الشركة ومباشرة طلبت من مقدم خدمة العملاء الاتصال بي، اتصلت الموظفة جزاه الله خيراً وأنجزت العمل المطلوب في أقل من خمس دقائق … بينما محاولاتي السابقة ضيعت علي الكثير من الوقت وحرقت أعصابي بلا فائدة.

ما علاقة كل هذا بالسيارة؟ فورد قدمت مصلحتها المالية على الصالح العالم واتخذت قرار غير أخلاقي، شركات التقنية اليوم في نفس الوضع ويزعجني أن أي تقنية أو فكرة رقمية جديدة يتبناها الناس بسرعة دون تفكير في العواقب، نحن نعيش في مجتمعات مختلفة ولدينا أساس أخلاقي مختلف، السرعة أو الكفاءة ليست القيمة الأهم، وكون الشيء أسرع لا يعني أنه أفضل، أتمنى أن تراجع مجتمعاتنا استخدامها للتقنيات الرقمية وتغير مسارها لتقدم أفضل خدمة بدلاً من الأسرع وهذا يعني لبعض الناس اختيار الوسيلة الأبطأ.

4 thoughts on “بينتو: قابلة للانفجار على أي سرعة

  1. هذه السيارة من بنات أفكار (أيا كوكا) مدير فورد المثير للجدل. والذي رفض وضع دعامة ثمنها 12$ وفضل ترك السيارة تذهب الى السوق وهي قابلة للاشتعال – وهو يعلم -.
    أبي كانت لديه هذه السيارة عندما كان يدرس في الولايات المتحدة، وكانت تروق له. قال أنها السيارة الوحيدة التي باعها بمكسب بعد شراءها1

    1. هذه مشكلة تقديم الكم على الكيف، الشركات تقيس كل شيء بالأرقام وارتفاعها يعتبر إيجابي بغض النظر عما يحدث في أرض الواقع، المدراء في مكاتبهم البعيدة عن الواقع لا يرون ولا يكترثون لما يحدث لموظفيهم الذين عليهم التعامل مع عواقب قراراتهم.

Comments are closed.